كيف يمكن أن نفهم الألتراس؟

[??????? ??? ?????? ????? ???? ???????] [??????? ??? ?????? ????? ???? ???????]

كيف يمكن أن نفهم الألتراس؟

By : Mohamed Elgohari محمد الجوهري

كان الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات في التاسع من مارس ضد المتهمين في تخطيط وتنفيذ مجزرة بورسعيد ضد مجموعة ألتراس أهلاوي في مباراة الأهلي والمصري التي اقيمت في الأول من فبراير من العام الماضي 2012 وما تلاه من أحداث عنف من جانب بعض المنتمين إلى المجموعة، فرصة ذهبية للإعلام – وليس فقط الرياضي- للظهور علينا بوجهه القبيح في تشويه الوقائع والبحث عن مزيد من الإثارة التي تجتذب مزيداً من المشاهدين من أجل تحقيق مزيد من الربح أو خدمة السردية التي تحاول السلطة فرضها على المجتمع فيما يتعلق بواقع ودور مجموعات الألتراس في الشارع، ولم تكن بعض القوى الثورية بعيدة عن هذا الإتجاه أيضاً. 

ففي ظل حالة التخبط التي تعيشها مؤسسات الدولة (أو شبه الدولة لأكون اكثر دقة)، بات أي تحرك من قبل أي مجموعات على المستوى المجتمعي تصوره الدولة وجوقتها الإعلامية على أنه محاولة لكسر هيبة الدولة وضرب سيادة القانون في مقتل، وطبعاً لم تسلم مجموعات التشجيع الرياضي (الألتراس) من هذه المحاولات، بل إن المجموعات مثلت الفرصة الذهبية للدولة والسلطة لهذا التشويه المتعمد، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع ما يقوم به الألتراس، خاصة المجموعات المنتمية للنادي الأهلي، فإن سردية السلطة والإعلاميين - الذين قادوا ويقودون حملات شيطنة المجموعات - تقوم على عدد من الأساطير، والتي أرى – من خلال متابعة المجموعات في مصر منذ فترة طويلة – أنها تقدم قراءة مغلوطة لواقع الألتراس في مصر.

الألتراس أو الأولتراس "Ultras" هي كلمة لاتينية تعني في الإنجليزية ما بعد الطبيعي، وتعني بالنسبة لأفراد المجموعات التشجيع الفائق للحد للنادي الذي ينتمون إليه، والإبداع المستمر داخل المدرج (بيت الألتراس) في التشجيع سواء في صورة هتافات أو أغان أو دخلات في المباريات التي يخوضها الفريق ضد المنافسين، وتاريخ ظاهرة الألتراس غير محدد بدقة فتتحدث الادبيات المهتمة بالظاهرة عن أنها بدأت في البرازيل في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وانتقلت الفكرة لأوروبا، خاصة إيطاليا التي شهدت فيها الحركة تطوراً وتأثيراً كبيراً في السبعينيات، ثم بعد ذلك انتقلت إلى الدول الاوروبية الأخرى القريبة جغرافياً من إيطاليا، ومن أوروبا أتت الفكرة إلى دول الشمال الافريقي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان قدوم الفكرة إلى الشمال الافريقي البداية لوصول الفكرة إلى مصر، حيث نشأت مجموعات الألتراس في مصر في منتصف عام 2007.

\"500\"

[تصوير محمد الجوهري]

الإنتماء: صيرورة خلق وطن بديل

اللبنة الاساسية التي تقوم عليها فكرة الألتراس هي الإنتماء الشديد للنادي/الوطن، الذي تستشعره من أول لحظة تتحدث فيها مع أي فرد ينتمي للألتراس كفكرة وكتنظيم، فهذا الانتماء الشديد قد نجد تفسيره في حالة الإغتراب التي سادت ليس فقط مصر وإنما الكثير من الدول العربية التي ظهرت فيها المجموعات، حالة اغتراب عن الدولة التي لم تكن بأي حال من الاحوال ممثلة للمجتمع ومعبرة عن إرادته الجمعية، فكان لابد لهذا الشباب الصغير أن يخلق كياناً أو فكرة ينتمى لها، فنجد الشعار الأشهر لنادي الترجي التونس هو "ترترجي يادولة جترجي يا دولتي يا دولة"، وبنظرة عابرة على هتافات وأغان مجموعات الألتراس المصرية تجد معاني الإنتماء للنادي وتعظيمه والإعتزاز بأمجاده متكررة ويتم التأكيد عليها باستمرار، فأحد الأغاني التي يتغنى بها ألتراس أهلاوي تقول "اعظأعظـم نادي في الكون، حفضل أحبه بجنون، حبي ليك يا أهلي،م الم الموت حيوقفه"، وعلى الجانب الاخر تجد ألتراس وايتس نايتس أو الفرسان البيضّ يغنون في المدرج "غال غاغالي وأفديه بحياتي، حياتي وعمري يهون يهونو، لإسم واحد هو زمالكي وأفديحاالك"، أيضا يغنون "سألون سألوني مين أختار لو في جنة أو في نار، زمالك أكيد حبي الوحيد من غير ما احتار.”ي مين اخت.

جاءت الثورة كحدث فارق في تاريخ المجموعات لتغير هذا المفهوم للإنتماء، أو بمعنى أدق لتضيف إليه بعداً آخر متعلقاً بالثورة والحرية والكرامة والإنتماء للوطن الأم، فقد ساد الشعور عقب سقوط النظام المباركي بأن بلدنا قد عادت إلينا من جديد، وأننا كمجموعات ألتراس سوف ندافع عن الحرية والكرامة، وقد أخرجت لنا المجموعات سواء المنتمية للنادي الأهلي (ألتراس أهلاوي والتراس ديفيلز) أو للنادي الزمالك (الوايتس نايتس) أجمل ما غني للثورة من اغاني، فنجد الأهلاوية ينشدون "قولناها زمان للمستبد، الحرية جاية لا بد. . . يا حكومة بكرة حتعرفي بإدين الشعب حتنظفي" ، ويعزف الوايتس نايتس "غنىغني الحرية دي أجمل غنوة في الوجود. . . شمس الحرية اتولدت ولا يمكن تموت الحر"، ويطرح التراس ديفيلز معنى جديد للانتماء للوطن الذي هو امتداد للإنتماء المجموعة للنادي "يا وطيا وطنية دا أنا أرضي أغلى الأوطان، نفديها بروحي ودمي ولو طلبت أكتر كماننية .”

 

\"\"

 [تصوير محمد الجوهري]

التمرد كمكون تأسيسي في الألتراس  

الألتراس بطبيعة التكوين هو مجموعة شبابية - يتراوح متوسط أعمار أفرادها ما بين 15-20 عاماً-  عمادها الأساسي هو التمرد، التمرد على أنماط التشجيع التقليدية، فالتشجيع بالنسبة لهم ليس مجرد حب النادي أو متابعة مبارياته من أمام شاشة التلفاز، أو الارتباط بروابط المشجعين التي كانت سائدة قبل ظهورهم، وكانت مرتبطة بمجالس إدارات الأندية ولا تخرج عن حظيرة طاعة هذه الإدارة أو المساحة التي رسمتها لها، في المقابل فإن عقلية الألتراس او الـ Mentality تقوم على الاستقلال عن قيود مجالس إدارات الاندية، والإبداع الصوتي والبصري في المدرج، والترحال وراء النادي في كل مباراة له حتى لو كانت خارج حدود الدولة، فضلاً عن التشجيع المستمر طوال مدة المباراة سواء كان الفريق خاسراً أو فائزاً، فالأمر الأهم لعضو الألتراس هو التشجيع، والمباراة بالنسبة له ليست ما يجري على أرض الملعب وإنما مباراة في التشجيع لمؤازرة اللاعبين وحسهم على الاداء الجيد في الملعب، لذك تجدهم في بعض الأحيان يشجعون وهم يعطون ظهرهم للملعب.

أيضا التمرد على أي محاولات لفرض السيطرة عليهم خاصة من جانب السلطة، وعلاقتهم بالشرطة وأفراد الأمن أبرز مثال على هذا التمرد، فالشعار الأبرز الذي تشترك فيه كل مجموعات الألتراس حول العالم هو "كل الشرطة اوغاد" “All Cops Are Bastards (A.C.A.B)” فهناك عداء غير طبيعي بين مجموعات الألتراس وعناصر الشرطة، والمجموعات في مصر ليست بعيدة عن هذا الإتجاه، فمنذ نشأة المجموعات في مصر في عام 2007 حاولت الشرطة بكل السبل التضييق على نشاط الألتراس داخل الأستاد وخارجه، فقبل الثورة كان أفراد المجموعة يتعرضون لعمليات تفتيش مهينة اثناء دخولهم المدرج، ومنعهم من اصطحاب أدوات التي يعتمدون عليها في التشجيع مثل السنانير وجلاد الدخلات، حتى وصل الأمر إلى منعهم من اصطحاب زجاجات المياه معهم إلى المدرج، فبعد أشهر قليلة من ظهور المجموعات في مصر في شهر نوفمبر 2007 وقبل إحدى مباريات الديربي بين الأهلي والزمالك، اصدرت مجموعة التراس أهلاوي بياناً على موقعها على الإنترنت تشير فيه إلى قرارها بإلغاء الدخلة التي جهزوها للمباراة، بسبب محاولات الأمن معرفة فكرة الدخلة ومنع دخول المواد التي سيستخدموها في إعدادها إلى المدرج، بالإضافة إلى التدخل في فكرة الدخلة ذاتها، وهو ما أعتبرته المجموعة تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية بما يتعارض مع المبادئ الحاكمة للألتراس.

 

\"500\"\"500\"

 \"500\"

[تصوير محمد الجوهري]

الألتراس في قلب حلبة الصراع السياسي

هذا الإرث في العلاقة مع الأمن مثّل أساساً قوياً للدور الذي لعبه أفراد مجموعات الألتراس في هزيمة قوات الأمن يوم الثامن والعشرين من يناير عام 2011، فبالرغم من إعلان مجموعات التراس أهلاوي والوايتس نايتس عن أنهم لن يشاركوا في الثورة بصفتهم الجمعية كألتراس، تأسيساً على فكرة أن مجموعات الألتراس نشأت من أجل الرياضة ومن أجل تشجيع الفرق الرياضية المنتمية لها هذه المجموعات، إلا أن الإعلان ترك مطلق الحرية للأفراد للمشاركة أو عدم المشاركة في الثورة كل حسب رؤيته وقناعاته الشخصية والفكرية والسياسية، ثم بعد ذلك سقوط نظام مبارك أطلق التراس أهلاوي والتراس وايتس نايتس عدداً من الهتافات والاغاني التي تنادي بالحرية وسقوط النظام القمعي والاستهزاء بالشرطة، الأمر الذي زاد من درجة استنفار النظام الحاكم وادواته القمعية ودفعته إلى تكثيف محاولاته لكسر شوكة المجموعات في المدرج وفي الشارع، الأمر الذي ردت علي المجموعات ليس بقرارات فردية طبقاً لمزاج وقناعات أفرادها بصفاتهم الشخصية، وإنما بصفتها الجمعية كألتراس خاصة بعد سقوط شهداء من المجموعات واعتقال عدد من أفرادها، وبعد تصعيد درجة هذا العنف من جانب النظام إلى أقصاه في بورسعيد، ليسقط 72 شهيداً من مجموعات الألتراس المنتمية للنادي الاهلي، بالإضافة إلى مئات المصابين. 

كانت حادثة بورسعيد بمثابة التدشين الرسمي لنزول مجموعتي التراس أهلاوي الرئيسيتين (التراس أهلاوي والتراس ديفيلز) إلى الشارع في محاولة للقصاص لدم الشهداء، وقد اتبعت المجموعتين وسائل للضغط على النظام من اجل تحقيق القصاص وتقديم الجناة الذين دبروا ونفذوا الجريمة للعدالة، بدأت بالمسيرات والإعتصام أمام مجلس الشعب، وسلاسل بشرية لتعريف الجمهور بأبعاد الجريمة، فضلاً عن استخدام العنف ضد الشرطة ومؤسسات الدولة المختلفة، مثل محاصرة الداخلية ومبني البورصة والبنك المركزي وقطع خطوط المترو، بالإضافة إلى اقتحام مبنى اتحاد الكرة أكثر من مرة، وكل هذا تم في سياق التأكيد المستمر من جانب المجموعتين أن نزولهم الشارع غير مرتبط بالصراع السياسي الدائر في الشارع بين القوى الثورية والنظام الجديد/القديم، وإنما من أجل تحقيق غاية أساسية هى القصاص للشهداء.

وبالطبع كان نزول المجموعات فرصة للنظام وعدد من المؤسسات والشخصيات الاعلامية لشيطنة المجموعات وتقديمها للرأي العام باعتبارهم مجموعة من المراهقين والبلطجية التي تسعى الى الخروج عن القانون وكسر هيبة الدولة، تلك الصورة التي كان يروجها عدد من الوجوه الإعلامية قبل الثورة، وقد اعتمدت هذ الحملة التي وصلت إلى ذروتها بعد صدور الحكم الثاني ضد المتهمين يوم التاسع من مارس على عدد من الأساطير التي لا تقوم على قراءة صحيحة لواقع مجموعات الألتراس في مصر.

 \"500\"\"500\"

[تصوير محمد الجوهري] 

مجموعة من البلطجية "الهوليجانز" 

إحدى الاستراتيجيات التي إتبعها الإعلام والنظام السياسي هي محاولة "شيطنة الألتراس" وذلك من خلال ربط أفكارهم بالعنف وببعض روافد حركة الألتراس العالمية خاصة مجموعات الهوليجانز Hooligans، وهم مجموعة من مشجعي الكرة في إنجلترا التي تعتمد على العنف كأسلوب اساسي في تشجيعها داخل المدرج، فضلاً عن استخدام العنف المفرط الذي قد يصل إلى حد القتل ضد المجموعات المنافسة، والمجموعات في مصر لم تكن بعيداً عن استخدام العنف، خصوصا في الفترة التي تزامنت مع ظهور المجموعات، من خلال الاشتباكات التي كانت تحدث على سبيل المثال بين المجموعات المنتمية للنادي الأهلي ونادي الزمالك خارج الإستاد بعد انتهاء مباريات الديربي بين الفرقين، وقيام المجموعات بنصب الكمائن لبعضها البعض، ومحاولة سرقة أدوات التشجيع الخاصة بالمجموعة المنافسة ، إلا أن عدداً من أفراد المجموعات في مقابلاتي الميدانية معهم أكدوا أن العنف أبداً لم يكن ليصل إلى درجة القتل، كما أنهم اعترفوا بخطأ هذه الممارسات وأنها بعيدة عن مبادئ الألتراس التي ترفض العنف، وعدم البدء في الهجوم إلا إذا تعرضت المجموعة لعنف من المجموعة (المجموعات) المنافسة، وأن المنافسة بين المجموعات لا تكون من خلال العنف المتبادل، وإنما تكون عن طريق تشجيع الفريق داخل المدرج، وفي سياق هذه الرؤية اجتمعت مجموعات ألتراس أهلاوي وألتراس ديفيلز ومجموعة ألتراس وايتس نايتس في الحادي عشر من مارس عام 2012 وبعد أكثر من شهر على وقوع مجزرة بورسعيد، لتعلن تضامنها مع بعضها البعض ضد قمع النظام الذي أودى بحياة أفراد منتمين للألتراس، وفي هذا الاجتماع أكد قادة المجموعات أن الخلافات التي كانت تنشب بينهم باستمرار كانت المدخل الأساسي والحجة التي يستخدمها الأمن في قمع المجموعات وإظهارها للرأي العام على أنهم مجموعة من البلطجية، الأمر الذي يستوجب التعامل معهم بحسم وبقوة، ومن ثم فإن اللحظة الآنية بعد المجزرة تستدعي نبذ هذه الخلافات، وتوحيد الصفوف لمواجهة قمع قوات الأمن، بالإضافة إلى تأكيد المجموعات على أن المنافسة ستظل قائمة بينهم، ولكن منافسة داخل المدرج، منافسة في ابتداع وسائل مبتكرة للتشجيع ومساندة فرقهم.  

 

\"500\"\"500\"

[تصوير محمد الجوهري]

\"500\"\"500\"

[تصوير محمد الجوهري]

تنظيم حديدي 

في سياق الحملة التي شنتها بعض الأقلام وبعض وسائل الإعلام ضد المجموعات خاصة بعد حرق مقر إتحاد الكرة ونادي الشرطة بالجزيرة في يوم التاسع من مارس، كان الخط الجامع بين هذه الأقلام والأبواق الإعلامية هو الترويج لفكرة أن الألتراس هو مجموعة ذات تنظيم هيراركي حديدي، خط السلطة فيه يتجه من أعلى إلى أسفل، بل إن بعضهم غالى في فكرة التنظيم، وعقد المقارنات بينهم وبين تنظيم الإخوان المسلمين، إلا أن هذا الزعم ينطوي على كثير من المغالطات، التي تنم عن جهل هؤلاء بطبيعة وشكل التنظيم داخل مجموعات الألتراس المصرية، فضلاً عن ماهية الظاهرة في حد ذاتها.

ولتناول فكرة التنظيم داخل مجموعات الألتراس سوف ابدأ بتشبيه ذكره لي أحد المسؤولين في مجموعة الوايتس نايتس، حيث شبه المجموعة بدائرة كبيرة لها مركز، وهذا الدائرة الكبيرة داخلها عدد من الدوائر، التي يحدد قربها أو بعدها عن المركز مدى تداخلها في عملية صنع القرار داخل المجموعة، وتحديد المسؤولين عن صنع القرار أو القرب من مركز الدائرة يتحدد باعتبارات كثيرة منها الخبرة في إدارة شؤون المجموعة وكل ما يتعلق بها سواء في نواحي التشجيع وإعدادات الدخلات أو الشؤون المالية، الأقدمية وطول الفترة الزمنية داخل المجموعة ومن أجلها اعتبار آخر، هناك أيضاً مدى ما يتمتع به العضو من قدرة على الإبداع والابتكار سواء في الهتافات أو الأغاني، إلا أن أهم هذه الاعتبارات مدى قدرة العضو على تخصيص وقت أكبر للمجموعة وإدارتها وأنشطتها، فكلما توافرت هذه الاعتبارات، كانت فرص العضو أكبر في القرب من مركز الدائرة ومن ثم المشاركة في عملية صنع القرار.

وفكرة الدائرة هنا مهمة لأنها توضح أنه بالرغم من أن هناك أفراداً أكثر تأثيراً من غيرهم في عملية صنع القرار، إلا أن الجميع لديه الفرصة ليكون أكثر قرباً من مركز الدائرة وبالتالي المشاركة في عملية صنع القرار، طالما توافرت فيه الإعتبارات السابق ذكرها، فالتنظيم داخل المجموعات هو شديد المرونة ولكنه في نفس الوقت شديد الانضباط، خاصة فيما يتعلق بأنشطة المجموعات داخل المدرج أو بالتحضير لهذه الأنشطة خارج المدرج، فحينما يتم تحديد المهام (كتابة الهتافات، الرسم، إعداد السنانير، توفير الأموال اللازمة للأنشطة، وغيرها من المهام المرتبطة بنشاط المجموعة داخل المدرج) والأفراد الموكل لهم  تنفيذها، ليس مسموحاً بأي هامش للفشل أوعدم أداء المهمة على الوجه الأكمل، لأن الفشل يعني هزيمة المجموعة أمام المنافسين وإظهار أنشطة المجموعة بشكل غير لائق، مما يجعلها عرضة للسخرية من جانب المنافسين، فتأخر عضو عن رفع صفحة الجلاد في أحد الدخلات داخل المدرج أمر غير وارد وغير مسموح بحدوثه تحت أي ظرف. 

أما المرونة فتأتي من سهولة الإنضمام للمجموعة، فليس هناك شروط معينة يجب على الفرد الذي يريد الانضمام للمجموعة الوفاء بها، فيكفي شرط حب النادي والرغبة في مساعدته لتكون عضواً، أيضاً المرونة تأتي من قدرة أي عضواعلى المساهمة في أنشطة المجموعة إذا كانت لديه القدرة والموهبة، فيكفي أن ترسل رسالة لبريد الكتروني معين بهتاف أو أغنية قمت بتأليفها أو فكرة دخلة، وإذا كانت الفكرة ملائمة فليس هناك ما يمنع  تنفيذها، أيضا تنبع المرونة من الانتشار الجغرافي للمجموعات في مناطق مختلفة في مصر بين الشمال والجنوب، الأمر الذي يصعب معه تركيز السلطة في مركز معين دون غيره، ففي كل مجموعة (أو سيكشن Section بلغة الألتراس) في منطقة جغرافية معينة هناك مسؤولون عن إدارة شؤون المجموعة في منطقتهم الجغرافية، تتولى مهمة التنسيق بين المجموعة والمجموعات في المناطق الجغرافية الأخرى، علاوة على التنسيق مع قادة المجموعة الأم.

أما فيما يتعلق بسلطة المسؤولين عن المجموعة على بقية أفراد المجموعة وإقدام الأعضاء العاديين على طاعة التعليمات أو المهام الموكلة لهم، فهى ليست نابعة من سلطة يمتلكها هؤلاء المسئولين أكثر من كونها نابعة من مجموعة المبادئ العامة والقوانين التي تحكم عالم الألتراس، ليس فقط في مصر واإنما حول العالم، بالإضافة إلى الإحترام الذي يحظى به هؤلاء المسؤولين لاعتبارات الفترات الطويلة التي قضوها في خدمة المجموعات ونشاطهم وجهدهم من أجل المجموعة، فالانضمام للمجموعة في النهاية هو انضمام اختياري ونابع من حب الكيان، وتنفيذ التعليمات ليس خوفاً من العقاب بقدر ما هو رغبة في الظهور بالشكل الأفضل وتحقيق نصر ساحق في مباراة التشجيع ضد المجموعة (المجموعات) المنافسة. 

\"500\"

[تصوير محمد الجوهري]

 الألتراس مخترقون من الإخوان ومن حازمون 

كانت المشادة التي حدثت بين أعضاء من مجموعة التراس أهلاوي وعدد من النشطاء السياسيين في المسيرة التي دعت إليها المجموعة امام وزارة الدفاع في الخامس عشر من شهر فبراير الماضي من أجل التذكير بأن المسؤول عن التخطيط لمجزرة بورسعيد هو المجلس العسكري بقيادة المشير محمد طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان، بالإضافة إلى قيام مجموعة الوايتس نايتس بسب باسم يوسف في مباراة الزمالك مع فريق جازيللي في إستاد برج العرب، فرصة للترويج لمقولة إن مجموعات الألتراس قد تم اختراقها من قبل التيارات السياسية خاصة المحسوبة على تيار الاسلام السياسي، فمجموعة ألتراس  أهلاوي – طبقا لهذه الرؤية - قد تم اختراقها من جانب الإخوان المسلمين عن طريق خيرت الشاطر، ومجموعة الوايتس نايتس اخترقهم حازم صلاح ابو إسماعيل، إلا أن هذه المقولة وما تنطوي عليه من تعميم يجب أن توضع في سياق عوامل عدة حتى يمكن الحكم على مقولات الاختراق هذه بموضوعية، أول هذه الاعتبارات مرتبط بعامل التنوع الذي يميز مجموعات الألتراس المصرية، وهو تنوع على عدة مستويات، تنوع على مستوى العمر، فالمجموعات تضم في عضويتها فئات عمرية مختلفة، فقد تجد اطفالاً أعمارهم ما بين 12-15 سنة وقد تجد شباب أعمارهم تتعدي العشرين عاماً، وهناك تنوع على المستوى الطبقي، فنظرة سريعة على المجموعات تجد أن من بينها من ينتمى للطبقات الدنيا في المجتمع، وهناك من ينتمون للطبقات الوسطى، ويمكن أن تجد ايضا أفراداً من الطبقات العليا، وهناك أخيراً تنوع في المستوى التعليمي بين أفراد الألتراس، هذا التنوع الكبير يستتبعه تنوع في الافكار والرؤي والمعتقدات السياسية.

ثانياً، إدراك أفراد المجموعات لدورهم في المجال العام، فالمجموعات باستمرار تؤكد أنها مجموعات رياضية، خلقت من أجل التشجيع والهتاف في المدرج فقط وأنه لاعلاقة لهم بالسياسة، فالمجموعة كمجموعة ليس لها أي توجه سياسي اللهم إلا العداء المستحكم للشرطة، إلا أن هذا الادراك لا ينفي اعتراف المجموعات بحرية أفرادها في اعتناق ما يروه من أفكار وعقائد سياسية كل حسب قناعاته الشخصية، بشرط ألا تكون هذه الافكار حاضرة في أنشطة المجموعة داخل المدرج أو التحضير لها خارج الإستاد.

وبوضع هذان الاعتباران مع بعضهما البعض، نصل إلى نتيجة مفادها أن فرد الألتراس لديه هويتان تتنازعاه حينما يخرج إلى المجال العام، هويته كفرد التراس منتمي لمجموعة تشجيع رياضية، وهويته كمواطن مصري يعيش هموم هذا المجتمع ومشاكله، ولديه رؤية معينة للتعامل معها، وبالتأكيد فإنه من الصعوبة بما كان الفصل الحدي بين هاتين الهويتين.

وثالث هذه الاعتبارات مرتبط بالفكرة التأسيسية لظاهرة الألتراس وهي الإنتماء للكيان والدفاع عنه بأي ثمن، وفي ظل هذه الفكرة يمكن  تفسير سلوك ألتراس وايتس نايتس المتعلق بسب باسم يوسف، لأن باسم يوسف – طبقاً لما رواه لي عدد من أفراد الوايتس نايتس - سخر من النادي في إحدى حلقات برنامجه الساخر، ويرى أعضاء المجموعة الذين تقابلت معهم أن نادي الزمالك أصبح مستباحاً من جانب وسائل الإعلام وأنه أصبح مادة ثرية للسخرية من كل يريد أن يضيف صبغة كوميدية لبرنامجه أو لمسلسله، فكان لابد من وقفة أمام هذه الاهانات المتكررة للنادي/الوطن، فكان السباب لباسم يوسف أثناء مباراة الفريق الإفريقية. 

اما آخر هذه الاعتبارات فمرتبط برؤية مجموعة ألتراس أهلاوي لقضية بورسعيد ودورها فيها، فالمجموعة منذ اللحظة الأولى لوقوع المجزرة اعتبرتها قضية خاصة بالمجموعة، وأن تنفيذها جاء رغبة للانتقام من أفراد المجموعة ومن دورهم في هزيمة الشرطة في الثامن والعشرين من يناير 2011، ثم دورهم في مختلف الاشتباكات التي تمت مع قوات الأمن منذ تنحي مبارك في شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء، ولذلك كان رفضهم لإقحام القضية في الصراع السياسي الدائر في الشارع بين مختلف القوي السياسية والممسكين بالسلطة /الإخوان المسلمين في الوقت الحالي، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الرؤية، فان القوى الثورية تتحمل جزء من المسؤولية كما شرح لي الأستاذ وافي نصر - أحد الناشطين بين أوساط القوى السياسية في القاهرة والجنوب، فالقوى السياسية لم تقدم رؤية واضحة للحوار مع مجموعات الألتراس من أجل بلورة رؤية سياسية ناضجة متعلقة بصراعهم مع السلطة، ووضع هذا الصراع في سياقه الصحيح، في ظل عدم نضوج الرؤية السياسية لمجموعات الألتراس الغير مسيسة بالطبيعة، وقد تجلى هذا الأمر في الرهان الساذج من جانب عدد من القوى الثورية على صدور الحكم الأول في القضية يوم 26 يناير الماضي بما لا يلبي رؤية الألتراس لقصاص عادل من الجناة، فيقرر الألتراس الحشد والتعبئة في الشارع ضد السلطة، وتكون شرارة لموجة ثورية جديدة، يكون الألتراس في صفوفها الأمامية بينما هم في الخلفية. 

الخلاصة أن التعميم والأساطير التي نسجها الإعلام والسلطة ومن قبلهم القوى السياسية كانت سبباً أساسياً في عدم وجود فهم صحيح لطبيعة مجموعات الألتراس المصرية وديناميات الحركة داخل المجموعات، وقد ساهم فشل المجموعات الثورية والقوى المعارضة في تكوين تنظيم قوي قادر على التعبئة والحشد وإدارة الصراع مع السلطة في الشارع في بلورة سقف عالي من التوقعات بخصوص حركة الألتراس في الشارع وعلاقتهم بالصراع الدائر في مصر الآن بين الدولة/السلطة والثورة، وهي توقعات لم تتدعى مجموعات الألتراس في يوم من الايام انها تسعى لتلبية استحقاقاتها.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Egypt’s Ultras: No More Politics

      Egypt’s Ultras: No More Politics
      Swinging between politics and football, the Egyptian “Ultras” football fans have spent the two years since the beginning of the 25 January Revolution trying to discover, redefine, and highlight their

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬